القداس الإلهي

 

ان الاحتفال بالقربان الاقدس إنما هو فعل إيمان بوجود يسوع كاملا، أي بلاهوته وناسوته، تحت اعراض الخبز والخمر، كما كان قبل ألفي سنة على الأرض، وكما هو الآن في السماء، وإن كنا لا نراه بأعيننا. يحوّل القربان المقدّس الأرضَ إلى سماء. وفي هذا الصدد يقول تعليم المسيحي الكاثوليكي: "ان سر القربان الاقدس هو سر تقوى، وعلامة وحدة، ورباط ووليمة فصحية، فيها نتناول المسيح غذاء، وتمتلئ النفس بالنعمة، ونعطى عربون الآتي" (تعليم الكنيسة 1323). وفي عظة يسوع عن خبز الحياة يقول "إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 53-54).

نحن نعلم أننا عندما نأكل جسد الرب ونشرب دمه، ننال الحياة فينا، إذ نكون كما لو أننا واحد معه، نسكن فيه وهو يملك أيضًا فينا. نحن نُحوّل الطعام العادي إلى جسدنا ولكن طعام الإفخارستيّا يُحوّلنا إلى جسد المسيح الربّ. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "أنت لن تُحوّلني إلى ذاتك كما تُحوّل الطعام إلى جسدك؛ بل إنّك سوف تتحوّل إليّ". (اعترافات 7، 10، 18). وبينما يتحول الخبز الجسدي في جسمنا ويسهم في إعالته، في الافخارستيا نحن بصدد خبز مختلف: لسنا نحن من نُحوِّله، بل هو يحوِّلنا، فنضحي بهذا الشكل مطابقين ليسوع المسيح، أعضاء في جسده، أمرًا واحدًا معه.

القداس هو فترة نحياها في السماء. بوجود السيد الرب وسطنا في الكنيسة وتصير الكنيسة سماء. لذلك يصرخ الكاهن "ارفعوا قلوبكم الى العلى". ومن هنا لا بد من الاستعداد الروحي. وهذا الاستعداد يتطلب منا ان نكون في حالة النعمة والمصالحة الأخوية والصوم القرباني والشكر بعد المناولة.

أ) حالة النعمة مطلوبة لتناول القربان المقدس

النتائج العملية التي استنتجها القديس بولس من كلام وضع سر القربان هي أن تناول المرء القربان الاقدس على خلاف الاستحقاق يُعتبرُ جُرماً موجهاً الى جسد الرب، وان تناول القربان حسب الاستحقاق يعتبرُشركة في جسد المسيح ودمه "فمَن أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَه ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهما فقَد أذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه" (1 قورنتس 27:11). فليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هكذا مِن هذا الخُبْز ويَشرَبْ مِن هذِه الكَأس. فمَن أَكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكْمَ على نَفْسِه. "أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟" (1 قورنتس 16:10). وفي هذا الصدد قال القديس قبريانوس عن الذين يتناولون الافخارستيا دون توبة ولا مصالحة: "انهم يغتصبون جسد الرب ودمه، فهم يخطئون الآن اليه باليد والفم، فيأتون جرما أكبر من نكرانهم له" (في الساقطين 16). وهذا ما دعا الكنيسة إلى إصدار الأمر حتى مفاده أنه لا يجرؤ أحد على تناول جسد الرب إلا بعد أن يعترف بخطاياه، كي لا يثقل ضميره بخطيئة مميتة، بل من رأى انه في حال خطيئة جسيمة ان يمتنع عن تناول جسد الرب قبل الاعتراف السري اولا. ولهذا كله يقول الكاهن في القداس في الرتبة الشرقية قبل التناول المقدسات للقديسين، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "طهّروا إذًا نفوسكم وهيّئوا أرواحكم لاستقبال هذه الأسرار".

ب) المصالحة الاخوية مطلوبة لتناول القربان الاقدس

 لا يمكن ان يتناول القربان الاقدس من لا يكون في علاقة قويمة مع الآخرين. فيقول الكتاب "فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك" (متى 5: 23). لا تكون التقوى حقيقية إلا إذا احببنا الله والقريب في آن واحد. "إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا" (1 يوحنا 4: 20). لذا نلاحظ في القداس أنه يبدأ بصلاة المصالحة، والصلح بين الناس وبعضهم، في القداس الشرقي؛ وأما في القداس الغربي فنجد رتبة المصالحة قبل التناول. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن الرّب يسوع المسيح قد جاء ليبحث عنك، أنت يا من كان بعيدًا عنه، وهو يريد أن يتّحد بك، وأنت، ألا تريد أن تتّحد مع أخيك؟ " (العظة 24 عن الرّسالة الأولى إلى أهل قورنتس).

ج) المشاركة في القداس الإلهي

ان القربان الاقدس هو ذكر لسر المسيح الفصحى بين البشر. لذلك فهو ينبوع النعمة كلها. فلا بد من الاستعداد الروحي للمتقدم الى تناول جسد الرب بالمشاركة في القداس الالهي فيتحد فكرا وقلبا بالقداس الإلهي، الذي يخلِّد ذبيحة الصليب، وبالوليمة المقدسة، حيث يتناول جسد المسيح ودمه، وينال بذلك خيرات الذبيحة الفصحية، ويُجدد العهد الذي قطعه الله بدم المسيح للبشر، ويتهيأ للوليمة الأبدية في ملكوت الآب، بإيمان ورجاء، مخبرا بموت الرب إلى أن يأتي.

وتساعد المناولة المؤمن للاستعداد للحياة الابدية "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54) وفي هذه الصدد يقول القديس ايريناوس "جسدنا الذي يُغذِّيه جسد المسيح ودمه هو عضو من اعضائه ولذلك "فهو جدير بقبول عطية الله التي هي الحياة الابدية" (5: 2: 3). وفي هذا الصدد نجد في تعليم كنيسة أورشليم المسيحيّ للمعمّدين الجدد (القرن الرّابع (رقم 4) أهمية المشاركة في المناولة "عندما أعلن الرّب يسوع المسيح بنفسه عن الخبز: "هذا هُوَ جَسَدي"، من يَجرؤ بعد على التردّد؟ وعندمّا يؤكّد بنفسه بشكل قاطع: "هذا هُوَ دَمي"، من يستطيع أن يشكّ بذلك؟ إذًا نحن نتشارك بجسد الرّب يسوع المسيح ودمه بِملء اليَقين. لأنّه، تحت أعراض الخبز، هو الجسد الّذي يُعطى لك؛ وتحت أعراض الخمر، هو الدمّ الّذي يُعطى لك، حتّى إنّك باشتراكك بجسد الرّب يسوع المسيح وبدمه، تصبح جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا معه. بهذه الطريقة، وبحسب القدّيس بطرس، نصبح "شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّة" (2 بطرس 1: 4).

د) الشكر بعد التناول

على المؤمن بعد التناول ان يقضي بعض الوقت في رفع صلاة حمدٍ وشكرٍ حتى يدرك سمو هبة التناول. فماذا نقدم لله على عطية جسده ودمه سوى التسبيح والشكر. وكان اليهود يسبحون المزامير 115-118 بعد أكل الفصح والتلاميذ سبحوا بعد أن أكلوا الفصح الجديد. هكذا بعد نهاية القداس وأثناء التناول يتوجب علينا ان نسبح الرب كما جاء في تعليم بولس الرسول "في وَسْطِ الجَماعَةِ أُسَبِّحُكَ" (عبرانيين 2: 12). فالإفخارستيا فعل حمد وشكر وهدفها الاتحاد بالمسيح اتحادا يدفع المتناول الى ان يجعل من حياته اليومية حياة حمد وشكر بقيادة الروح القدس وأن يأتي ثمار المحبة.

ه) التناول على الاقل مرة في السنة

 أوصى سيدنا يسوع المسيح بالاحتفال بالقربان الاقدس بقوله "اعملوا هذا لذكري" والقديس بولس يطالب بتجديد العشاء تذكار موت الرب" فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي" (1 قورنتس 26:11). ومن هنا جاءت وصيَّة الكنيسة وهي ان يلتزم كل مؤمن، بعد قبوله المناولة الاولى، بواجب قبول المناولة المقدسة مرة واحدة في السنة على الاقل. وعليه ان يقوم بهذا الواجب خلال الزمن الفصحي، الاَّ اذا قام بإتمامه في وقت آخر من السنة، لسبب صوابي (الحق القانوني 920). وأمَّا المرضى فيحرصوا ان يتناولوا وهم لا يزالون بكامل وعيهم. ويجب الا يؤجل لمدة طويلة، منح القربان المقدس كزاد اخير للمرضى الموجودين في خطر الموت (الحق القانوني 921).

و) الصوم القرباني

يتوجب على المقبل على تناول الافخارستيا المقدسة أن ينقطع لمدة ساعة واحدة على الاقل قبل المناولة المقدسة عن كل طعام وشراب، عدا الماء والدواء. أمَّا المتقدمون في السن والمرضى والقائمون على رعايتهم يستطيعون قبول الافخارستيا المقدسة، وان كانوا قد تناولوا شيئا ما خلال الساعة السابقة (الحق القانوني (919).

ز) السجود للقربان

السجود للقربان الاقدس هو السجود والصلاة الصامتة أمام القربان المعروض على المذبح. إنه بمثابة حوار روحي وسجود صامت مع المسيح الحاضر في القربان المقدّس. وقد نشا هذا السجود من عادة المحافظة على القرابين لإعطائها للمرضى. وظهرت في القرن الثالث عشر مع البابا أوربان الرابع، وهي امتداد لعيد خميس الجسد. وكانت جواباً على رغبة الشعب الذي يريد أن يرى الله. ويبدو واضحاً ان أهداف السجود للقربان مرتبطة باعتباره تكملةً للاحتفال – المناولة.

هذه العبادة أصبحت اليوم شائعة خاصة عند الشبيبة. إنسان اليوم بحاجة إلى علامات، ونحن في عالم المحسوس والملموس نحن بحاجة إلى الرؤية والاحساس بالسلام والفرح الداخلي. لان السجود للقربان المقدس يساعد الإنسان على الهدوء وتوحيد الشخصية وتهدئة العواطف. وكما الأيقونة الشرقية تساعد المؤمن بعد أن ينظر إليها أن يشعر أنها تنظر إليه، هكذا النظر إلى يسوع في القربان يُشعر المؤمن أن يسوع ينظر إليه. أن وجودنا في حضرة المسيح القرباني يساعدنا كي ندخل في نور المسيح. ومن هنا تأتي أهمية السجود للقربان بشكل متواتر وبقلب منفتح ومؤمنٍ.

ح) التطواف القرباني

يطوف المؤمنون بالقربان المقدس كشهادة ايمان وتقوى خاصة بمناسبة عيد جسد الرب ودمه. وفي سنة 1263 أوصى البابا أوربانوس الرابع جميع المسيحيين التطواف بالقربان المقدس في كل المدن والقرى بكل ما يقدرون عليه من الإجلال والتكريم نتيجة أعجوبة حصلت في القربان المقدس في تلك السنة في قرية بولسينا – إيطاليا. وهي أن الكاهن بينما كان يكمل خدمة القداس أمام الشعب في كنيسة القديسة كريستينا، شك بعد التقديس الجوهري في صحة وجود جسد المسيح. فلمِّا قسم القربان المقدس إلى جزأين جرى منه دمٌ حيٌّ وصبغ منديل المذبح. إن التطواف بالقربان "علامة حب" في العالم وإشارة لحضور المسيح حي الذي يسير في وسطنا ويقودنا نحو ملكوت السماوات.

ي) اضاءة شمعة او قنديل امام القربان

إن اضاءة شمعة او قنديل زيت ليل نهار امام القربان المقدس في الكنائس ليست سوى فعل إيمان بوجود يسوع تحت شكلي الخبز والخمر. وعند إيقاد الشموع أو القناديل تُقال صلوات خاصة من بينها "لأنك أنت يا رب سوف تضيء شمعتي. أيها السيد الرب إلهي اجعل هكذا ظلمتي نورًا. واجعلني دائمًا أنير للآخرين. الرب نوري وخلاصي. ممن أخاف؟".

ق) المناولة الروحية

يشدّد القديس ألفونس دو ليغوري كثيرًا على المناولة الروحية وكذلك البابا بندكتس السادس عشر. وتقوم المناولة الروحية على الرغبة بالمناولة كالصلاة التالية: "يا يسوع، أنا أؤمن بك بأنك موجود حقًا في سر القربان بجسدك ودمك ونفسك وألوهيتك. وبما أنني لا أستطيع حاليًا أن أتناول القربان، فأرجوك أن تأتي وتسكن روحيًا على الأقل في قلبي. تبارك يسوع في سر القربان الاقدس".

ل) عيش الحياة المسيحية

ينتهي القداس بإرسال المؤمنين "اذهبوا بسلامك المسيح" وذلك ليحققوا إرادته تعالى في حياتهم اليومية ويوصلوا يسوع الى كل البشرية كما جاء في قول البابا القديس يوحنا بولس الثاني "مِن القربان نستمد القوّة لكي نعيش الحياة المسيحية حتى نتشارك هذه الحياة مع الآخرين".

وباختصار، إن سر الافخارستيا هو الذي حافظ على الكنيسة عبر العصور بسبب وجود المسيح وسطها دائمًا، فهو وسط كنيسته كل الأيام وإلى انقضاء الدهر (متى 28: 20)، وكثير من الكنائس التي أنكرت هذا السر ضاعت مع الأيام. فالكنائس ليست فقط تعاليم، بل هي حياة يسكبها المسيح على كنيسته فتحيا، لذلك الافخارستيا هي سر الأسرار والمنبع الدائم الذي تنسكب منه حياة المسيح في الكنيسة على مر الأزمان وبه نتحد كلنا كشعب للمسيح جسد واحد وخبز واحد "فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" (1 قورنتس 10: 17).